كَثِيرًا مَا تَلِجُ فِي ذَاكِرَتِي الْمُهْتَرِئَة مَشَاهِدُ الطُّفُولَةِ الْعَذْبَة العَابِقَةُ بالابْتِسَامَة و الْمُشَاكَسَاتِ و التَّمَرُّدِ ، و خَاصَّةً لَيْلَةَ الإِثْنَيْنِ الَّتِي تَسْبِقُ مَوْعِدِي مَعَ طَالِباتِي فِي الصَّفِ السَّادِسِ ، صَدَقَ مَنْ قَالَ كَمَا تُدِينُ تُدَان ، أَجِدُنِي أَحْيَانًا كَثِيرَة أَبْتَسِمُ و أَنَا أَتَذكَّرُ عِنْدَمَا كُنْتُ أَجُولُ الْمَقَابِرَ و الْمَزَارِعَ و الْوِدْيَانَ و أَتَسَلَّقُ الْجِبَالَ (أَحْيَانًا) ؛ بَحْثًا عَنِ الْحَشَرَاتِ و الْعَقَارِبَ و أَشْيَاءَ أُخْرَى غَرِيبَة ، أَذْكُرُ أَنَّنَا نَنْتَقِي وَقْتَ الظَّهِيرَةِ عِنْدَمَا يَنَامُ أَهْلُونَا لِنَسِيحَ فِي الأَرْضِ و نُنَقِّبُ تَحْتَ الأحْجَارِ عَنِ الْعَقَارِبِ و الثَّعَابِين!!
هِوَايَاتُ الأَطْفَالِ غَرِيبَةٌ حَقًّا ، مَازِلْتُ أَذْكُرُ مَشْهَدَ تِلْكَ الْعَقْرَبِ الضَّخْمَةِ الَّتِي كَانَتْ تَحْمِلُ عَلَى ظَهْرِهَا عَشَرَاتٍ مِنَ الْعَقَارِبِ الصَّغِيرَةِ و كَيْفَ كَانَتْ صَيدًا مُوَفَّقًا بالنِّسْبَةِ لَنَا و خَاصَّةً بَعْدَ حِيلَةِ الْبَطْشِ بِهَا ، أَحْضَرَ أَحَدُهُم وِعَاءً كَبَّهُ عَلَيْهَا يُحَرِكِّهُ قَلِيلاً لِتَخْرُجَ الْعَقَارِبُ الصَّغِيرَةُ و نَقْتُلُهَا وَاحِدةً تِلْوَ الأُخْرِى بالدَّوْرِ حَتَىَ بَقِيَتْ الأُمُّ الَّتِي كَانَ قَتْلُهَا مِنْ نَصِيبِ صَاحِبِ الْحِيلَة !!
أَذْكُرُ مَرَّةً أَنِي كُنْتُ أَلْعَبُ مَعِ ابْنِ الْجِيرَانِ ( الَّذِي إِنْ رَأَيْتُهُ الآنَ مَا أَظُنُّ أَنِّي سَأَعْرِفُهُ) ، نُمَثِّلُ أَدْوَارَ آبَائِنَا و أُمَّهَاتِنَا و نُقَلِّدَهُم فِي كُلِّ شَيءٍ ، فخَطَرَتْ فِكْرَةٌ جُهَنِمِيَّةُ فِي ذِهْنِ أَحِدِنَا فِي أَنْ نَسْلِقَ بَيْضًا فِي أَوَانِينَا الْفُخَّارِيَّة الَّتِي كُنَّا نَصْنَعُهَا ، و كَانَ بَيْتُنَا الصَّغِيرِ خَلْفَ مَنْزِلِهِم بَيْنَ أَشْجَارِ الغَافِ الْكَبِيرَةِ ، أَحْضَرَ كِبْرِيتًا مِنْ بَيْتِهِمْ و أَشْعَلْنَا النَّار فِي مَوْقِدِنَا الْمُكَوَّنِ مِنْ ثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ و كَمٍّ هَائِلٍ مِنَ الْخُوصِ الْيَابِسِ ، و مَا هِيَ إِلاَّ لَحَظَاتٍ حَتَّى تَسَرَّبَ دُخَانُ النَّارِ الَّتِي وَقَفْنَا مُنْبَهِرَيْنِ جَاثِمَيْنِ أَمَامَهَا و نَحْنُ نَرَاهَا تَلْتَهِمُ بَيْتَنَا الصَّغِيرَ و مَا يَحُفُّهُ مِنَ الْغَافِ الْكَثِيفِ ، و لاَ نَسْمَعُ إِلاَّ صُرَاخَ الْنِّسَاءِ اللَّوَاتِي تَجَمَّعْنَ فِي بَيْتِ الْجِيرَانِ و هُنَّ يَصْرُخْنَ : حَرِيق حَرِيق ...!! تَجَمَّعُوا بِدِلائِهِم يَنْضَحُونَ الْمَاءَ مِنَ الْفَلَجِ بالْجِوَارِ و الَّذِي يُسَمُّونَهُ ( بُو حِمَار ) و نَحْنُ نَنْظُرُ بِبَرَاءَةٍ خَائِفَةٍ للمَشْهَدِ !!
أَشْعُرُ بِسَّعَادَةِ عِنْدَمَا أَذْكُرُ مُعَلِمَةَ الصَّفِ الثَّالثِ الابْتِدَائِيِّ ، الْمُعَلِمَةُ التُّونِسِيَّة الَّتِي تُدْعَى لَطِيفَة الْحَبِيب ، كَانَتْ أُمًّا حَنُونًا عَلَّمَتْنِي الْكَثِيرَ ، و أَظُنُّهَا أَوَّلُ مَنْ أَثَارَ فِي نفْسِي حُبَّ الشِّعْرِ الْعَرَبِيِّ ، جَعَلَتْنَا مَرَّةً نُمَثِّلُ دَرْسَ التَّقْلِيدِ الأَعْمَى فِي حُضُورِ عَدَدِ كَبِيرٍ مِنَ الْمُعَلِّمَاتِ و الأَسَاتِذَة ، كَانَ دَوْرِي فِيهَا دَوْرَ الرَّاعِي ، أُعْجِبَ الْجَمِيعُ و عَزَّزُونَا بكَلِمَاتِهِم الْجَمِيلَة ، كَانَتْ ( ذَكَرَهَا اللهُ بالْخَيْرِ) تُحَفِّظُنِي الْكَثِيرَ مِنَ الْقَصَائِدِ لِأُشَارِكَ بِهَا فِي مُسَابَقَاتِ الإِلْقَاءِ ، جَزَاهَا اللُّهُ عَنِي كُلَّ خَيْرٍ و رَزَقَهَا الْجِنَان .
ذِكْرَيَاتٌ و مَوَاقِفُ لاَ تُنْسَى أَبَدًا ، أَيَّامٌ نَحِنُ إِلَيْهَا و خَاصَّةً عِنْدَمَا يُعَادِينَا الْحَاضِرُ، و يَغِيبُ الْمُسْتَقْبَلُ ، فلاَ نَمْلِكُ سِوَى الْمَاضِي و أَحْلاَمُ الطُّفُولَةِ نَسْتَسْقِي مِنْهَا الْحَيَاة لِنُجَدِدَهَا و نَسْتَلْقِي عَلَى جَمَالِهَا .
حَزِنْتُ لأَنِّي سَأُوَدِّعُ تِلْكَ الْوُجُوهَ اللَّطِيفَة ، رُغْمَ الشَّغَبِ و الْمُشَاكَسَةِ الْمُزْعِجَة إِلاَّ أَنَّ إِبْدَاعَهُنَّ فَوْقَ ذَلِكَ كُلِّهِ ، كَيْفَ لِي أَنْ أَنْسَى صَابْرَة ، عَهد ، نِفِين ، غَايَة ، بُثَيْنَة، ثُرَيَا ، آيَة ، خُلُود ، إِلْهَام ، مَجَان ...الخ ؟! لاَ سَبِيلَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ .
كَانَ يَوْمُ الإِثْنَيْنِ التَاسِعِ عَشَر مِنْ رَبِيعِ الآخَرِ لِعَامِ 1428هــ الْمُوَافِقِ للسَّابِعِ مِن أَيَار/ مَايُو لِعَامِ 2007م يَوْمًا حَافِلاً فِي مَدْرَسَةِ فَيْضِ الْمَعْرِفَةِ شَرَحْنَا دُرُوسَنَا ، و وَدَّعْنَا طَالِبَاتِنَا ثُمَّ سَلَمْنَا الْمَشْرُوعَ الذِي كَلَّفَتْنَا بِهِ الْمَدْرَسة و الأَعْمَالُ الْجَمَاعِيَّةُ الأُخْرَى ، تَلَقّْيْنَا شُكْرًا مِنْ مُعَلِّمَاتِنَا الْمُتَعَاوِنَات ، أَكْثَرُ مَا أَعْجَبَهُنَّ مِنَ الأَعْمَالِ تَرَصُّدَنَا للأَخْطَاءِ اللُّغَوِيَّةِ فِي لَوْحَاتِ الْمَدْرَسة !
أَجْمَلُ مَا فِي هَذَا الْيَومِ مُرَافَقَةُ زَمِيلَتِنَا الْخَطّاطَة وَضْحَاء السَعِيدِي لَنَا ؛ مِنْ أَجْلِ دَوْرَةِ الْخَطِّ ، حَضَرَتْ مَعِي الْحِصَّة الثَّانِيَة ، عَجِبَتْ مِن نَشَاطِ الطَّالِبَاتِ الزَّائِدِ .
تَأَلَّمْتُ كَثِيرًا أَنِي سَأُفَارِقُ طَالِبَاتُ الصَّفِ السَّادِس ثَانِي ، لَمْ أُعَلِّمْهُنَّ لَكِنَّ عَلاَقَتِي بِهِنَّ تَوَطَّدَتْ عَلَى حُبِّ الْعَرَبِيَّةِ و الإِبْدَاعِ و التَّمَيُّزِ ، فَقَدْ تَحَدَّثْتُ مَعَهُنَّ فِي حِصَصِ الاحْتِيَاطِ ، الفسحَة فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَحْيَانِ و أُعْجِبْتُ كَثِيرًا بِمَا يَمْتَلِكْنَ مِنَ الْمَوَاهِبِ الصَّاعِدَة ؛ فَحَرِصْتُ عَلَى التَّوَاصُلِ مَعَهُنَّ .
و مَا أَنْ قُرِعَ جَرَسُ السَّادِسَة حَتَّى ارْتَعَدَتْ فِي نَفْسِي كُلُّ مَوَاطِنِ الأَحْزَانِ ، و أَنَا أَوَزِعُ نَظَرَاتِي الأَخِيرَةَ عَلَى فِرْدَوْسِ التَّرْبِيَةِ الْعَمَلِيَّة ، فَكَانَ عَزَائِي أُنْشُوَدةٌ أُتَمْتِمُ بِهَا :
رُغْمَ أنَّ الشَّمْسَ مَالَتْ للغُرُوب
رُغْمَ أَنَّ اللَّيْلَ قَدْ صَارَ غَرِيب
رُغْمَ أَنَّ الشَّمْعَ ذَابْ
رُغْمَ أَنَّ الْجُرْحَ شَابْ
مَا زَالَ عَهْدُكَ كَامِنًا عُمْقَ الْقُلُوبِ
و مَضَى آخِرُ يَوْمٍ فِي حَيَاةِ التَّرْبِيَةِ الْعَمَلِيَّةِ ، لِيَبْقَى رُوحًا تَنْبِضُ و شَمْسًا تَسْطَعُ فِي ذَاكِرَتِي بِإِذْنِ اللهِ .
الإِثْنَيْنُ التَاسِعُ عَشَر مِنْ رَبِيعِ الآخَرِ لِعَامِ 1428هــ الْمُوَافِقِ للسَّابِعِ مِن أَيَار/ مَايُو لِعَامِ 2007م