الأربعاء، 7 أبريل 2010

أَيَّــام فِي رُوحِ الذَّاكِرَةِ

مِنْ ملَفَّانِي الْقَدِيمَة .. قَرَّرْتُ نَشْرَهــا هُنـا ..


كَانَ لِصَوْتِ الْعَفَاسِي فِي أُذُنِي وَقْعٌ مُخْتَلِفٌ هَذِهِ الْمَرَّة، وَهُوَ يَصْدَحُ عَبْرَ هَاتِفِي (إلاَّ صَلَاتِي مَا أَخَلِّيهَا...الخ) فَتَحْتُ عَيْنَيَّ ؛ لأرَى ابْتِسَامَةَ الْفَجْرِ السَّاحِرَةِ خَلْفَ زُجَاجِ نَافِذَتِي وهِيَ تَمُدُّ لِي يَدًا لِتَنْتَشِلَ بِهَا كَسَلاً اعْتَادَ المَبِيتَ مَعِي كُلَّ لَيْلَةٍ ، تَضَرَّعْتُ للهِ قَبْلَ خُرُوجِي وَ أَنَا أَحْمِلُ بَيْنَ يَدَيَّ أَمَلاً جَدِيدًا ، و نـَظْرَةً لِغَدٍ بَعِيدٍ .

بَدَتْ خطُواتِي سَرِيعةً عَلَى غَيْرِ الْعَادَةِ ، يَمَّمْتُ وَجهي إلى كُلِّيَةِ التَّربِيَةِ ، فإِذَا بِبَعضِ صُوَيْحِبَاتِي سَبقْنَنِي لانْتِظَارِ الْحَافِلةِ ، تَطْفو عَلى مَلامِحِهِنَّ البَهجَةُ و شيءٌ مِنَ الخَوْفِ الجَمِيلِ، يَبدُو أنَّهُنَّ قَدْ استَبْدَلْنَ مَرَارَةَ الانْتِظَارِ بِلَذَةِ الجِدِّ و الحَمَاسِ !

و أخِيرًا أشْرقَتْ الحَافِلَةُ في تَمَامِ السَّادِسَةِ و الثُّلثِ ، مَلأناهَا حَدَّ النِّهَايَةِ ، انْطَلَقتْ تَجُرُّ وَراءَها حُلمًـا بَاتَ بَعْضَ حَقِيقة .

لاحَتْ لَنا فَجْأةً لافِتَةٌ كُتِبَ عَليهْا ( مَدْرَسةُ ولايَةِ بدبد ...) تَسَلَّلَ الخَوْفُ إِلَى نَفْسِي مِنْ حَيْثُ لا أَدْرِي ، تَقَدَّمْتُ بِخُطـىً مُتـثَـاقِلةٍ تائهةٍ ، المَكَاتِبُ بلا أروَاح ، ليْسَ إلَّا أجْسَامًا مُتَحَرِّكَةً صَغِيرَةً ، تَحْمِلُ وجُوهًا بَريئَةً نَقِيَّةً طـَاهِرةً ، تَبْعَثُ شَيْئَا مِنَ الاطْمئْنَانِ .
بَعْدَ دَقائِقٍ رأيتُ الجَميعَ يتَّجِهُ إِلَى غُرْفةٍ ليُودِعَ تَوْقيعَهُ ثُمَّ يَمْضِي قَلَّدتُهُنَّ وَخَرَجْتُ عَلَى وجْهٍ بائسٍ بِصَوْتٍ خافِتٍ يَسَألنُي :
أي تخَصُّصٍ أنْتِ ؟
أجِيب بابتسَامَةٍ :
اللغة العربية .
و كَأنَّ طَيْـفَ نُورٍ ارتطمَ بذلِكَ الْوَجه!!
- أنَا أعْطِي لِصُفُوفِ التَّاسِعِ و الثَّامِنِ المُطَّوَّرِ . هَلْ تَأْخُذِينَ مَعِي ؟
- أَيْنَ المُعَلِّمَةُ الأُولَى ؟ و أينَ المُدِيرَة ؟
- المُديرَة لمْ تًأتِ بَعد . و لا أدْرِي أيْن تجِدِينَ المُعلِّمةَ الأولَى
- !!!!!!!
- مَنْهَجُ التَاسِع جَميلٌ ، و سَيُريحكُم ...
- حَسَنًا حسنًا سَأنْظُرُ فِي الأمْرِ ... نَنْتَظِرُ المُدِيرَةَ و المُعَلِّمَةَ الأُولى .
أَغْرَى لِسانُها أُذْنيْ زَميلَتِي فَبَادَرتْ قَائِلةً :
ما اسْمُكِ يَا أسْتَاذة ؟ أنَا سآخُذُ مَعَك .
فمَضَيْتُ غَيْرَ مُبَالِيَةٍ بِمَا يُقَالُ ، تَكَرَّرَ المشهَدُ نَفْسُه مِرارًا و تَكرارًا و الغَرَابَةُ تَمْلؤُنِي إلَى أَنْ دُقَّ الجَرسُ ، و بَدَأَت الأَفْوَاجُ تَتَوافَدُ فِي مَشْهَدٍ كِلاسِيكيٍّ رَائعٍ أثَارَ فِي نَفسِي مَلَاحِمَ الذِّكْرَيَاتِ القَدِيمَةِ ، قُلْتُ فِي نَفسِي: يَا إلهِي هَذهِ المَرَّةُ مختلِفةٌ تَمَامًا فَقَدْ اخْتلَطَتْ الأَدْوَارُ و لَمْ تَعُدْ كَالسَّابِقِ!!
و فِي غَمْرَةِ الطَّابُورِ الصَّبَاحِيِّ لَاحَ لِي مِنْ بَعيدٍ يَدانِ مُمْتدَّتَانِ تَطْلُبَانِ عِنَاقِي .. ربَّاه !! إنَّه وَجْهٌ مأْلُوفٌ .. إنَّها مُعَلِمَتِي الَّتي كَانَتْ تَصُفُّ لَنَا مَمَالِكَ الأحْيَاءِ بالصَّفِ الأَولِ الثـَّانَوِيِّ، شيْءٌ يَدْفَعُنِي و إيَّاهَا لِلْبُكَاءِ الصَّامِتِ بَعْدَ احْتِضَانٍ طَويلٍ!!

و كأنِّي وُلِدْتُ مِن جَدِيدٍ و نَغَمَاتُ تَحِيَّةِ الوَطنِ تَخْتَرِقُ أُذُنَيَّ لتَهُزَّ كُلَّ شَعْرَةٍ فِي بَدَنِي و كأنِّي أَسْمَعُهَا للمَرَّةِ الأولَى ، كِدْتُ أحَرِّكُ شَفَتَيَّ لأُشَارِكَهُنَّ التَّحِيَّة ، كَما اعْتَدْتُ سابِقًا ، لَوْلا صوتٌ أَلْجَمَني قائِلاً : لا تَنْسِ أنَّكِ مُعَلَمَة!! و مَــاذَا يَعْنِي ؟! ألاَ يَحِقُّ للمُعَلِّمَةِ أَنْ تُحَيِّ وَطَنهَــا ؟! لَكِنِّي فاكْتَفَيْتُ بِأصْدَاءِ النَّشِيدِ تَتَرَدَّدُ فأَرْشِفَهَا معَ نَسَماتِ الهَواءِ ، إلَى أنْ أُذِّنَ بالانْصرافِ .

أعَدْنَا سُؤَالَنَا عنِ المُعَلِّمَةِ الأولَى قِيلَ لَنَا لديْها حِصةٌ بالصَّفِ الثَّانِي عَشَر و لا تَسْتطيعُ تَرْكَها ، قُلْنَا: لا بَأسَ عَلَيْها هِيَ فُرْصةٌ للتَهيِئَةِ النَّفْسِيَّةِ . بَعْدهَا أُخْبِرنَا أنَّ المُدِيرةَ تَطْلُبُنا ، فَخشِيتُ أنْ تَكونَ مُنْزَعِجةً لِكَثْرَةِ الطَّالِباتِ المُتَدَرِّباتِ فِي ذلِك الْيَوْمَ، وجَمِيعُنَا قَدْ أَلِفَ المدْرَسةَ ، خَطوْتُ مَعَهُنَّ عَلَى وَجَلٍ واضِحٍ تَغَيَّرَ ما أنْ رأيْنا وَجْهُ المُدِيرَةِ السَّمْحِ كمَا بدا لَنا ، رَحَّبتْ بِنَا جميعًا بابتِسامَةٍ قَتَلَتْ بِهَا مَا كَانَ يَخْتلِجُنا مِن قَلَقٍ وَاضحٍ ، بَدَأَتْ بِفِكْرَةٍ عامَةٍ عَن تَاريخِ المَدْرَسةِ، و قَوَانِينِها،وأنظِمَتِها، و تحَدَّثتْ عَنْ كفاءةِ المعَلِّماتِ ، وضَعَت النِّقَاطَ عَلَى الحُرُوفِ بِبَيانِها مَا لَنَا و مَا عَلَيْنا ، أَنْصَتْنَا بِارْتِيَاحٍ حتَّى أذِنتْ لنَا بالانْصِرَافِ ، لم نُطِلْ الانْتِظارَ حَتَّى جَاءَتْ المُعَلِّمَةُ الأولَى لتوَزِّعَنا حسْبَ رَغْبِتنا عَلى الصُّفوفِ و تُعَرِّفَنَا عَلَى مُعَلِّمَاتِنَا المُتَعَاوِنَاتِ .

اتْفَقتُ مَعَ مُعَلِّمتِي المُتعَاوِنةِ الَّتِي سُعِدْتُ بأرْيَحِيَتِها و تَعاوُنِها و أسْلُوبِها ، قَرَّرْتُ أنْ أحضُرَ معَها حِصَّةَ مُشَاهَدةٍ و مَعَ غَيْرِهَا حِصَّةً أخْرَى ، اسْتمْتَعتُ كثِيرًا و زَادَ حَمَاسِي فأسْرَعْتُ لأسْتَغِلَّ ذلِكَ بالسُّؤالِ عَنْ المُعَلِّمَةِ الَّتي تُشْرِفُ عَلَى نَشَاطِ المَسْرحِ و الإلْقَاءِ ، وجَدْتُهَا و هُمُومُ الدُنيَا قَدْ سُكِبَتْ عَلَيْها !! بَدَأْتُ حَدِيثِي بالابْتِسامَةِ ثُمَّ السَّلامِ بعْدَهَا أخْبَرتُها بِرَغْبَتي في المُساهَمَةِ فِي الإشْرَافِ عَلَى المَسْرَحِ ، دُهِشْتُ بِهَا تَتَذَمَّرُ من عِبءِ المَسْرَحِ المُلْقَى عَلَى كَاهِلِها دُونَما رَغْبَةٍ مِنْهَا !! الْتَزَمتُ الصَّمْتَ لأستحْضِرَ و أنْتقي بَعْضَ الألْفَاظِ لأرْفعَ مِن مَعْنَوِيَّاتِها ، عَلِّي أُغَيِّرُ نظْرَتَها ، قالَتْ لِي : تَبْدِينَ مُتَحَمِّسَةً جِدًا يَبْدو أنكِ عضوٌ في نشَاطِ المَسْرحِ بالجَامِعَة ، أجبتُها بالْنَفي و عِبَارَةِ ( وَلكِنِّي أعْشَقُ المَسْرحَ و الْكِتَابةَ المَسْرحِيَّةَ ) ابْتَجَهَتْ بعْدَهَا و قالتْ لي : لا بَأس ذلِكَ كَافٍ بالنِّسبَةِ إِلَيَّ مَا دُمْتِ ستُسَاعِدينَني في النُّصُوصِ المَسْرَحِيَّةِ ، عِنْدَهَا أحْسَسْتُ بالمَسْؤُولِيَّةِ لأوَّلِ مَرَّةٍ فِي حَيَاتِي !

وبَعْدَ أنْ استقَرَّتْ أُمُورِي كُـلُّهَا أخْرَجْتُ رِوايةً كُنْتُ قَدْ بَدَأْتُ قِراءَتها ، فإذا بِصَوْتٍ يَهْمِسُ فِي أذُنِي يقْطَعُ مُتْعَتي بالقِراءةِ قائلاً : ( هل أخَذَتْ إحْداكُنَّ منْ حصَصِ فُلانَة الفٌلانِيَّة ؟) أدَرْتُ رأسِي اسْتِغْرَابًا و أجَبْتُها بِقَولٍ ممْزُوجٍ بالعَجبِ قائلةً : ( لا أَظُنُّ ذلكَ ) ابْتهَجَتْ أَسَارِيرُهَا قائلَةً: ( أحْسَنُ لَكُنْ .. و إلَّا كُنْتُنَّ ستَتوَرطْن معَهَا) و كأنهَا لَطَمَتْنِي بقِطعَةِ ثَلْجٍ عَلَى وَجْهِي تَجَمدتُ صَمتًا و اسْتِياءً ، أحَاوِلُ أنْ أصَدِّقَ مَا أسْمعُ !! أَدْرَكْتُ بأنِّي يَجِبُ أنْ أغَيِّرَ مَكَاني، تَجَاهَلْتُ الأمْرَ و اسْتَأذَنْتُ بِحُجَّةِ اقْتِرابِ مَوْعِدِ الرَّحِيلِ ، حَمَلْتُ كُتُبِي و أوْرَقِي و لَحقْتُ بزَمِيلاتِي إلَى الغُرْفَةِ نَفْسِهَا لِأُوَقِّعَ فِي جِهَةٍ أخْرُى مِنْ سِجِلِّ الصَّبَاحِ نفْسِهِ ، صعَدْتُ إلَى الحاَفلَةِ و أَنَا أجُرُّ وَرائِي حُلُمًا وَديعًا وهَدفًا أسْمَى .

مَا أنْ أطَلَّت جَامِعَةُ السُّلطَانِ قَابُوس لتَسْتَقْبِلَنَا حتّى خَطَرَتْ بِذِهْنِي صُورَةُ أُمِّي الحَبِيبَة عِنْدمَا كَانَتْ تسْتَقْبِلُنِي و أنا عَائدةٌ من مدْرَسَتِي لأطْبَعَ عَلى جَبِينِهَا و كَفَّيْهَا قُبُلَاتِ الخُضوعِ و الامْتِنَانِ، لِتَضُمَّنِي بدفءِ حَنَانِها ، أغلَقتُ عيْنيَّ .. تَنَفستُ بعُمقٍ ؛ لأستَعيدَ لَحظَاتِي السَّعيدَةَ و ابْتِسَامَتِي المَعْهُودَةَ و أغَطِّي بهَا دَمْعَتِي المُتَحَجِّرةَ، ولأُرسِلَ يَوْمِي فِي رُوحِ الذَّاكِرةِ ..






17 شَعْبَان لِعَامِ 1427هـ المُوافِق العَاشِر من أيْلول/ سبتمبر لعام 2006 م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق