رُبَّمَا يُحَاوِلُ الْوَاحِدُ مِنَّا أَنْ يَتَلاَفَى أَيَّ ذِكْرَى مُؤْلِمَةٍ يَمُرُّ بِهَا ، أَوْ تَجْرِبَةٍ عَابِرَةٍ لَمْ يَخْرُجُ مِنْهَا بِأَكْثَرِ مِنْ يَأْسٍ يَجْعَلَهُ يَرَى الْحَيَاةَ بِلَوْنٍ قَاتِمٍ ، كُلٌّ مِنَا يُحَاوِلُ أَنْ يَرْسُمَ اِبْتَسَامَةَ النَّجَاحِ فِي مُخَطَّطَاتِهِ المُسْتَقْبَلِيَّةِ ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُفَكِّرُ يَوْمًا بِأَيِّ لَوْنٍ يَجِبُ أَنْ يُلَوِّنَ ابْتِسَامَتَهِ ،لَيْسَتْ حَيَاتُنَا إِلاَّ حَقِيبَةَ تَجَارِبٍ حَيَّةٍ ، إِمَّا أَنْ تَصْقِلَ ظُهُورَنَا أَوْ تَكْسِرَهَا ، و التِلْمِيذُ النَّجِيبُ هُوَ مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرْتَدِي حَقِيبَتَهُ دُونَ أَنْ يَتَضَرَّرَ مِنْهَا ، رَائِعَةٌ هِيَ الْحَيَاةُ عِنْدَمَا نَشْعُرُ بِقِيمَةِ كُلِّ دَقِيقَةٍ مِنْهَا ، عِنْدَمَا نَشْعُرُ بِأَنَّنَا نَمْضِي لأَجْلِ هَدَفٍ سَامٍ ، عِنْدَمَا نَجِدُ ذَاتَنَا فِي الْمَوْقِعِ الصَّحِيحِ .
هَكَذَا كَانَ يَوْمُ الإثْنَيْنِ الثَامِنِ مِنْ شَهْرِ صَفر لِعَامِ 1428 هــ المُوَافِقُ للسَّادِسِ والْعِشْرِينَ مِنْ شبَاط/فِبْرَايِر لِعَامِ 2007 م ، تَجْرِبَةٌ بِطَعْمٍ خَاصٍ جِدًا ، اسْتَطَعْنَا مِنْ خِلاَلِهَا أَنْ نَعْرِفَ حَجْمَ الْجُهْدِ الَّذِي نَحْتَاجُهُ لإِعَادَةِ بِنَاءِ عَقْلِ جِيلٍ هَدَّمَتْهُ عَوَامِلُ التَّعْرِيَةِ ، لَمْ نَكُنْ نَعْلَمُ أَنَّ عَوَامِلَ الْهَدْمِ قَدْ اسْتَفْحَلَتْ و رَبَتْ إِلَى تِلْكَ الدَّرَجَةِ الَّتِي وَصَلَتْ إِلَيْهَا فِي الْمَدْرَسَةِ الَّتِي ذَهَبْنَا إِلَيْهَا ذَلِكَ الصَّبَاحُ الرَّمَادِيِّ !
مَا أَنْ وَصَلْنَا إِلَى الْمَدْرَسَةِ حَتَّى رَأَيْنَا الْعَجَبَ الْعُجَابِ ، وُجُوهًا مُلَطَّخَةً بأَلْوَانِ الطَّيْفِ ، جَعَلَتْنَا نَشْعُرُ أَنَّنَا دَخَلْنَا سَاحَةَ عُرْسٍ خَطَأً ، تَاهَتْ خُطَانَا ، وَقَّعْنَا الْحُضُورَ و أَنَا أَقُولُ لِزَمِيلَتِي مَرْيَمَ أَشْعُرُ بِضِيقٍ و غَثَيَان، خَرَجْنَا لِنَبْحَثَ عَنْ غُرْفَةِ المُعَلِمَاتِ ، مَكَانُهَا كَانَ عَلى غَيْرِ الْمُعْتَادِ فِي مُعْظَمِ الْمَدَارِسِ ، وَضَعْنَا أَغْرَاضَنَا عَلى طَاوِلَةِ مُعَلِمَاتِ اللغَةِ الْعَرَبِيَّةِ اللَّوَاتِي كُنَّ فيِ قِمَةِ الطِّيبَةِ ، و لِسَانُ حَالِي يَقُولُ لاَ بُدَّ أَنْ نُوَاكِبَ مَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ الْمَدْرَسَةُ مِنَ الانْفِتَاحِ المُشِينِ ، فَنَحْنُ لَمْ نَرَ شَيْئًا بَعْدُ ، و يَجِبُ أَنْ نَتَرَيَّثَ فِي الْحُكْمِ ، خَرَجْنَا للطَّابُورِ و نَحْنُ نَتَتَبَّعُ بِأَسْمَاعِنَا صَوْتَ الإذَاعَةِ ( الرَّادْيُو ) ، عَادَةٌ جَعَلَتْنِي أَتَذَكَّرُ مَا كُنْتُ أَقْرَؤه ُ عَنِ الأَحْزَابِ السِّيَاسِيَّةِ زَمَنَ السَّادَاتِ و جَمَال عَبْدِ النَّاصِر و خِطَابَاتِهم السِّيَاسِيَّة الَّتِي يَحْرِصُ الوَطَنُ الْعَرِبِيُّ عَلَى سَمَاعِهَا مِنْ إِذَاعَةِ صَوْتِ الْعَرَبِ ، اسْتَحْسَنْتُهَا ، فَقَدْ تَكُونُ طَرِيقَةً مُجْدِيَةً ، لِتَعْرِيفِ المُعَلِّمَاتِ و الطَّالِبَاتِ بَأهَمِ مُسْتَجَدَّاتِ الْعَالَمِ السِّيَاسِيَّةِ و الاقْتِصَادِيَّةِ و الاجْتِمَاعِيَّةِ و الْفَنِيَّةِ ، تَوَقَّعْتُ أَنْ تُغْلِقَ فَوْرَ بِدْءِ الطَّابُورِ الصَّبَاحِيِّ ، غَيْرَ أَنَّ بَقَاءَ الصَّوْتِ الْخَافِتِ مُخَالِطًا للطَّابُورِ أَدْهَشَنِي ، و خَاصَّةً فِي لَحْظَةِ السُّكُونِ قَبْلَ النَّشِيدِ الْوَطَنِيِّ ، أَوْ أَثْنَاءَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ ، شَيْءٌ عَجِيبٌ كَيْفَ يُخْلَطُ هَذَا بِأَصْوَاتِ الْمُغَنِينَ الصَّاخِبَةَ و إِنْ كَانَتْ خَافِتَةً فِي نَظَرِهِنَّ !!!
فُوجِئْنَا بَأَنَّ الْمَدْرَسَةَ أَخَّرَتْ الاحْتِفَالَ بِعِيدِ الْمُعَلِّمِ إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمَ ؛ فَقَدْ كَانَتْ مَشْغُولَةً قَبْلاً بالإِعْدَادِ لاسْتِقْبَالِ لَجْنَةِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى النَّظَافَةِ و الصِّحَةِ فِي الْبِيئَةِ الْمَدْرِسَيَّةِ الَّتِي مِنَ الْمُفْتَرَضِ أَنْ تَزُورَهَا ذَلِكَ الْيَوْمِ لَوْلاَ أَنَّ الْقُرْعَةَ كَانَتْ عَلَى مَدْرَسَةٍ أُخْرَى ، غَبِيٌّ مَنْ يَقْتَنِعُ بَأَنَّ ذَلِكَ الْحَفْلَ كَانَ لأَجْلِ الْمُعَلِّمِ !! فَلَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَجِدَ أَدْنَى رَابِطٍ بَيْنَ الْحَفْلِ و عِيدِ المُعَلِمِ سِوَى فِقْرَةٍ أَخِيرَةٍ وُزِّعَتْ فِيهَا الْهَدَايَا للْمُعَلِّمَاتِ ، كَانَ حَفْلاً صَاخِبًا مُقْتَصِرًا عَلَى الرَّقَصَاتِ الشَّعْبِيَّةِ المُنَوَّعَةِ و عَرْضِ الْجُمْبَازِ و مَسْرَحِيَّةٍ عَنْ أَمِيرَةٍ لاَ تُحَافِظُ عَلَى نَظَافَتِهَا الشَّخْصِيَّةِ و صِحَّتِهَا !!
خَلاَلَ الْحَفْلِ جَاءَتْ طالِبَةٌ إِلَيْنَا بِدَفْتَرِ الاحْتِيَاطِ ، أَخَذْتُ الصَّفَ الْخَامِسَ فِي الْحِصَّةِ الرَّابِعَةِ ، قُلْتُ فِي نَفْسِي لَعَلَّ بَرَاءَةَ الطُّفُولَةِ سَتُنْسِينِي عَنَائِي هُنَا ، و انْصَرَفْتُ إِلَى غُرْفَةِ الْمُعَلِّمَاتِ أَسْأَلُ عَنِ الْمُعَلِّمَةِ الأُولَى للُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ كَالْعَادَةِ ، كَانَتْ لاَ تَزَالُ فِي الطَّابُورِ ،انْتَظَرْنَاهَا حَتَّى انْتَهَى الطَّابُورُ بَعْدَ الْحِصَّةِ الثَّانِيَةِ ، ثُمَّ جَاءَتْ لِتُوَزِعَنَا عَلى المُعَلِمَاتِ ، و الْغَرِيبُ فِي الأَمْرِ أَنَّ عَدَدَ المُتَدَرِّبَاتِ كَانَ أَكْبَرَ مِنْ عَدَدِ المُعَلِمَاتِ فِي الْمَدْرَسَةِ ، كَانَ حَظِّي مَعَ الصَّفِ السَّادِسِ ، لَمْ أَتّذَمَّرْ أَبَدًا، بَلْ عَلى الْعَكْسِ نَظَرْتُ إِلَى ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ فَرْصَةٌ للتَّدريبِ عَلَى التَّعَامُلِ مَعَ الْبَرَاعِمِ الصَّغِيرَةِ ، تَعّرَّفْتُ عَلَى مُعَلِّمَتِي الْمُتَعَاوِنَةِ ، كَانَتْ هَادِئَةَ الطَّبْعِ ، لَطِيفَةَ التَّعَامُلِ ، طَيِّــبَةً للغَايَةِ ، تَكَلَّمْتُ مَعَهَا و اتَّفَقْنَا عَلى أُنْشُودَةِ الْمُمَرِّضَةِ دَرْسًا لِلأُسْبُوعِ الْقَادِمِ ، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَ زَمِيلاَتِي لاسْتِكْشَافِ مَرَافِقَ الْمَدْرَسَةِ ، دَقَّ جَرَسُ الفُسْحَةِ فإِذَا بِمُعَلِمَةٍ بَهِيَّةِ المُحَيَّا تَقُولُ للطَّالِبَاتِ المُتَدَرِّبَاتِ بِكُلِّ ذَوْقٍ و مَرَحٍ جَمِيلٍ : أَخَوَاتِي الْعَزِيزَاتِ يُسِرُنَا أَنْ تُشَارِكْنَنَا ( البُوفيه ) الذِي نُقِيمُه نَحْنُ الْمُعَلِّمَاتِ بِمُنَاسَبَةِ عِيدِ المُعَلِّمِ ، قَبِلْنَا الدَّعْوَةَ و ذَهَبْنَا مَعَهَا ، أَطْبَاقٌ مُشَكَّلَةُ مِنَ الْحَلْوَى و الْمُعَجَّنَاتِ و أَنْوَاعٌ مِنَ الْمَشْرُوبَاتِ الْغَازِيَّةِ و الْعَصَائِرَ كَانَتْ بانْتِظَارِنَا ، أَخَذْنَا مَا شِئْنَا و عُدْنَا إِلَى غُرْفَةِ المُعَلِمَاتِ ، فَلاَ مَكَانَ لَنَا هُناَكَ .
مَرَّ الوَقْتُ سَرِيعًا ، حانَ مَوْعِدَي مَعَ حِصَّةِ الاحْتِيَاطِي ، ذَهَبْتُ إِلَى الصَّفِ تَصْحَبُنِي زَمِيلَةُ التأْهِيلِ ، فَقَدْ أَخَذَتْ الحِصَّةَ الَّتِي تَلِيهَا احْتِيَاطِيًّا ، و كَانَتْ الْمَرَّةَ الأُولَى بالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا ، و لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُ كَيْفَ يُمْكِنُ اسْتِغْلاَلُ حِصَصِ الاحتِيَاطِ ، دَخَلْنَا إِلَى الْفَصْلِ و سَلَّمْنَا ، حَقِيقَةً عَانَيْتُ كَثِيرًا عِنْدَمَا اكْتَشَفْتُ أَنَّ الطُّفُولَةَ سُلِبَتْ مَزَايَاهَا ، كُنْتُ أَسْمَعُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ بَعِيدٍ ، و لَكِنَّ لَمْ أَتَوَقَّعْ يَوْمًا أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا مُعَاشًا ، رَأَيْنَا مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ و سَمِعْنَا مَا لاَ أُذْنٌ سَمِعَتْ، أَحَسَسْتُ بالْغُرْبَةِ و كَأَنَّنِي أَعِيشُ فِي دَوْلَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ بِلاَ مَبَادِئَ و لاَ أَخْلاَقِيَّاتِ ، تَعَرَّفْتُ عَلَى مَوَاهِبَ غَرِيبَةَ مَازِلْتُ أُفَكِّرُ فِي مَدَى حَاجَةِ مُجْتَمَعٍ إِسْلاَمِيٍّ إلَيْهَا ، مَا صَدَّقْنَا أَنْ انْتَهَتِ الحِصَّةُ ؛ لِنَخْرُجَ إِلَى حِصَّةِ احْتِيَاطٍ أُخْرَى سُجِّلَتْ لِزَمِيلَتِي ، ذَهْبْنَا مَعًا أَيْضًا ، كَانَتْ للِصَّفِ السَّادِسِ ، غَيْرَ أَنَّ فَارِقَ سَنَةٍ كَانَ لَهُ تَأْثِيرٌ طَفِيفٌ عَلَى الأَقَلِّ ، فَطَالِبَةُ الصَّفِ السَّادِسِ خَرَجَتْ مِنَ الصَّفِ و قَدْ أَعْلَمَتْنِي أَنَّهَا سَتَخْرُجُ ، و لَمْ تَنَمْ عَلى الأَرْضِ أَمَامَنَا كَمَا فَعَلَتْ طَالِبَةُ الْخَامِسِ! خَرَجْتُ و أَنَا أُرَدِّدُ اللَّهُمَّ إِنِي لاَ أَسْأَلُكَ رَدَّ القَضَاءِ و لَكِنِّي أَسْأَلُكِ اللُّطْفَ فِيهِ .
قَرَأْتُ فِي عُيُونِ زَمِيلاَتِي اسْتِيَاءً ، هَكَذَا نَحْنُ عِنْدَمَا يَتَكَثَّفُ الأَلَمُ فِي قَلْبِ أَحَدِنَا ، لَنْ يَجِدَ غَيْرَ الصَّحْرَاءِ مَلْجَأً ، يَهِيمُ فِيهَا رَاغِبًا أَنْ يُمَرِّغَ قَلْبَهُ فِي كُثْبَانِهَا المُحْرِقَةِ ، لَعَلَّ لَهِيبَهَا يُبَخِّرُ الأَلَمَ ، مَسَاكِينٌ نَحْنُ حَقًّا ، مَتَى نَكْتَشِفُ بِأَنَّ حَرَارَةَ الصَّحْرَاءِ فَقَدَتْ لَذَّتَهَا و لَمْ تَعُدْ كَسَابِقِ عَهْدِهَا ، إِنَّهُ الزَّمَنُ الَّذِي تَخُونُ فِيهِ الرِّمَالُ قُلُوبَنَا الْجَرِيحَةَ المُثْخَنَةَ بالْوَجَعِ .
خَرَجْنَا مِنْ تِلْكَ الْمَدْرَسَةِ و نَحْنُ نَحْمِلُ رَجَاءً بِنَقْلِنَا إِلَى أُخْرَى أَفْضَلَ ، فَكَّرْتُ فِيمَا اسْتَفَدْتُهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمَ ، إِنَّهَا أَعْظَمُ حَقِيقَةٍ غَائِبَةٍ ، و أَرْوَعُ دَرْسٍ جَعَلَنِي أُدْرِكُ قِيمَةَ التَّرْبِيَةِ و الدِّينِ و الأَخْلاَقِ عِنْدَمَا تَتَّحِدُ مَعَ التَّعْلِيمِ ، و رَأَيْتُ وَاقِعَ تَفَرُّقِهَا ، تَزَاحَمَتِ الأَفْكَارُ فِي ذِهْنِي ، وَصَلَ تَفْكِيرِي إِلَى الطَّرِيقَةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ أُرَبِّي عَلَيْهَا أَوْلاَدِي فِي الْمُسْتَقْبَلِ و تَحَدِّي الزَّمَنِ بِكُلِّ مَا يَحْمِلُ مِنْ مُفَاجَآتٍ سَخِيفَةٍ كَتِلْكَ، و أَخِيرًا أَجِدُنِي أَبْتَسِمُ و أَنَا أَقُولُ لِنَفْسِي لابُدَّ أَنَّ فِي الأَمْرِ خَيْرًا كَثِيرًا !!
يَوْمُ الخَمِيسِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ شَهْرِ صَفر لِعَامِ 1428 هــ المُوَافِقُ للأَوَّلِ مِنْ آذار/ مَارِسَ لِعَامِ 2007 م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق